Quantcast
Channel: المُندسّة السورية » emadalabbar
Viewing all articles
Browse latest Browse all 14

موسى.. وجوانب الحقيقة (1)

$
0
0

لا شك أن لكل قصة في القرآن طابعها المميز، ولا شك أيضاً أن قصة موسى مع بني إسرائيل تأتي في مقدمة القصص القرآنية، فهي تقدم تسجيلاً دقيقاً لمرحلة إنسانية هامة، كانت وما تزال تعتبر من أعقد المراحل التي مرّت بها البشرية على الإطلاق. الغريب في القصة أنك كلما تأملت بها تخرج منها بفهم جديد، بحسب الظروف التي تعيشها في لحظة قراءتك لها، وهي خاصية تمتد لمجمل النص القرآني، فهو مفتوح على الزمن والحدث، يخاطبك ويفهم متطلباتك في كل مرة تحتاجه فيها، فهو ليس مجرد نصوص أحكام جافة، بل نص حي، تجده حين تبحث فيه.. عنه!.

تظهر القصة وحشية غير مسبوقة لفرعون ونظامه، بشكل يجعل منه أمثولة في التاريخ، إذ يكفي أن تقول عن فلان أنه كفرعون، حتى تحرك في وعي المتلقي أشد مشاعر الرهبة من شدة الجبروت والدموية، ففرعون هذا كان يذبح غلمان بني إسرائيل بعد رؤيا رآها، خشية أن يسلبه أحدهم ملكه كما فسّر له بعض أعوانه تلك الرؤيا، والتي أصبحت حقيقة فيما بعد!، وهو لم يترك عاماً بدون ذبح الغلمان إلا حرصاً على استمرار وجود الأيدي العاملة، والتي كان بنو إسرائيل يشكلون غالبية هذه الطبقة، وتقول الروايات التاريخية إنه عمل على هذا النهج في ذبح الأطفال طيلة فترة حكمه، التي قال عنها المؤرخون، إنها تجاوزت الستين عاماً!.

في مثل هذه الظروف نشأ موسى، ولكن اقتضت المشيئة الإلهية أن يتناوب في فترة طفولته بين بيئة أهله في بني إسرائيل، وبين أسرة فرعون، وهذا كان جزءاً من عملية التربية والإعداد لمرحلة لاحقة، هي المهمة والتي سيتغيّر على أساسها كل شيء (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي). وفي الحقيقة إن مرحلة الإعداد التي كثيراً ما نغفل عنها في حياتنا، كانت هي الأساس الذي لا غنى عنه لتحقيق كل النتائج اللاحقة ..

رأى موسى عليه السلام الحقيقة من مختلف جوانبها، فأن تعيش في بني إسرائيل هذا لوحده سيجعلك تحمل كلّ حملهم السلبي تجاه فرعون وملئه، فضلاً عن أن موسى نفسه هو أحد الضحايا الناجين من بطش فرعون!، وأن تعايش واقع الحال في بيت فرعون، يحتم عليك أن ترى الصورة متكاملة أكثر، فيها وجهة نظر المستضعف، ووجهة نظر المستكبر، وما بينهما من تقاطعات، يكون فيها المستكبر مستضعفاً، والمستضعف مستكبراً. فتعاصر ظلم المستضعف، بل تمارسه أيضاً وتكرر بعض أخطائه، كما حدث مع موسى حينما قتل الرجل من أنصار فرعون. كما سيتاح لك أن تعايش الحالة الإنسانية للطاغية، ربما ليس في شخصه مباشرة، بل في من يحيط به، وفي أقرب المقربين منه، زوجته التي منحت فرصة الحياة للفكرة التي ستهدم الطغيان فيما بعد، والرجل المؤمن من آل فرعون، والذي لم يكن دوره أقل أهمية .. هذه المعايشة لم تكن من قبيل الصدفة أبداً، فالتغيير قد يبدأ نتيجة الحِمل السلبي، كالحِمل الذي حمله بنو إسرائيل. كان من الممكن أن ينتفضوا على عدوّهم، كانت لديهم كل المبررات لذلك، فمن وجهة نظرهم كضحية، لم يكن ليمنعهم شيء من أن يفعلوا كل ما هو بإمكانهم، فالظلم الذي تعرضوا له على مدى عقود لا تحمله الجبال، إلا أن الانتفاضة التي قد تبدأ كلحظة انفجار، لن تصل إلى شيء إن لم يسبقها مراحل إعداد ( أو يتخللها مراحل إعداد وإصلاح ومراجعة ذاتية)، ستكون مجرد لا شيء، إن كانت فقط مجرد انفجار عبثي، إن لم يسبقها أو يتضمنها فهم للتغيير والمراد منه وأساليبه ..

قصّة موسى عليه السلام هي قصتنا!، لأنها قصة الإنسان ببساطة، فإن لم تفهم ظروف عدوك، إن لم تفهم كيف أصبح عدواً لك وكيف أصبحت مستضعفاً، فإنك لن تصل لشيء، هكذا وبكل بساطة. فشيطنة عدوك هي الحاجز الذي سيحجب عنك الرؤية في البداية، بعد قليل ستنكر أخطاءك، ولن يبقى أمامك سوى أن تزيل الطاغية من الوجود، ربما يحدث ذلك، ولكنك بالتأكيد لن تشعر بأنك أصبحت في تلك اللحظة بالذات مكانه، لن تشعر ؟!، بل ستشعر ولكن سيأتي من يقول لك (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) !.

في القصة لفتة معبرة جداً، فحياة موسى في بيت فرعون جعلت منه جزءاً من ذلك النظام بشكل أو بآخر، بل إن لذلك النظام فضل في إبقائه حياً (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِين)، وهذا لم يتعارض مع أن يكون فيما بعد على رأس عملية تغيير ذلك النظام. ليس في الأمر ما يمنع وليس هناك شروط تعجيزية، المطلوب منك فقط أن تصبح في لحظة ما صاحب مشروع للتغيير، وأن تكون على رأسه، على رأسه في مواجهة فرعون، وليس في الصفوف الخلفية منتظراً اكتمال العملية لتكون مكان فرعون !.

وكغيره من البشر أخطأ موسى قبل أن يُكلّف بحمل الرسالة، فقتل رجلاً، دفاعاً عن الذي هو من شيعته، لم يترك فرعون فرصة استخدام الغلطة القديمة أثناء حواره مع موسى (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ). لم يكن إعداد موسى يتضمن تعليمه أصناف المراوغة اللفظية لتبرير القتل، حتى ولو كان عن طريق الخطأ، مع أن مساحات تبرير تلك الفعلة كانت واسعة، بل كان الرد بمنتهى البساطة والقوة والوضوح (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)!.. حين تبرر الخطأ تستهلك وقتك وجهدك وقيّمك، وأنت في عملية التغيير تحتاج الثلاثة، فلا شيء يستحق تبرير الخطأ، لا شيء يستحق المراوغة، ولن تفلح شيطنة الآخر في التعميّة عن الخطأ شديد الوضوح .. فعلتها إذن وأنا من الضالين .. كنتُ من الضالين .. ولكني اليوم مكلّف بأن أنتشلك وأنتشلني مما نحن فيه ..

على موسى السلام ..

 

——————

عماد العبار

طلعنا عالحرية/جريدة لجان التنسيق المحلية

 


Viewing all articles
Browse latest Browse all 14

Latest Images

Trending Articles





Latest Images